متى ضاعت الهوية .. لماذا تبدو مدننا متشابهة؟
لم تكن المدينة في يومٍ من الأيام مجرد تجمّع عمراني ضمن بنية إسمنتية فحسب، بل كانت ولا تزال كائنًا حيًّا يعبّر عن سكانه، ينمو معهم ويتغير بتغير عاداتهم وتقاليدهم وطريقتهم في التعامل مع المكان والزمان. يصف باتريك غيدس (عالم بايلوجي وخبير في تخطيط المدن) المدينة بأنها "أكثر من مجرد مكان في الفراغ، إنها دراما في الزمن" فهي تسرد سردية جماعية للهوية وقصة طويلة جداً عن ساكنيها .
لكننا اليوم، حين ننتقل من مدينة عراقية الى أخرى ، يكاد لا يفاجئنا المشهد: الشوارع ذاتها، الألوان نفسها، والمباني المتراصفة كأنها خرجت من قالبٍ واحد. فهل بات التشابه العمراني قدَرًا...
متى ضاعت الهوية .. لماذا تبدو مدننا متشابهة؟
لم تكن المدينة في يومٍ من الأيام مجرد تجمّع عمراني ضمن بنية إسمنتية فحسب، بل كانت ولا تزال كائنًا حيًّا يعبّر عن سكانه، ينمو معهم ويتغير بتغير عاداتهم وتقاليدهم وطريقتهم في التعامل مع المكان والزمان. يصف باتريك غيدس (عالم بايلوجي وخبير في تخطيط المدن) المدينة بأنها "أكثر من مجرد مكان في الفراغ، إنها دراما في الزمن" فهي تسرد سردية جماعية للهوية وقصة طويلة جداً عن ساكنيها .
لكننا اليوم، حين ننتقل من مدينة عراقية الى أخرى ، يكاد لا يفاجئنا المشهد: الشوارع ذاتها، الألوان نفسها، والمباني المتراصفة كأنها خرجت من قالبٍ واحد. فهل بات التشابه العمراني قدَرًا مفروضًا؟ أم أنه نتيجة لخيارات وممارسات يمكن تفكيكها ونقدها؟
في موجات التوسع الحضري السريع، تغلّب منطق الكفاءة على فلسفة التنوع. أحياء جديدة تُخطط كصفوف مُكررة من المجاورات السكنية، بشوارع متقاطعة، ومساحات خضراء رمزية، وواجهات معمارية متشابهة لا تترك مجالًا للدهشة تتخذ من الرتابة عنواناً رئيسياً في المشهد الحضري.
العمارة في الواقع الحالي لم تعد لغة حوارية بين الإنسان ومحيطه، يتفاعلان في معادلة واحدة يحدد بحدود المكان، بل أصبحت لغةً عالمية تتكلم بها المباني دون تفاعل مع الانسان.
يؤكد هذا التأثير كريستيان نوربرغ-شولتز (معماري نرويجي ومنظر للعمارة) بقوله: "كلما أصبح التصميم أكثر عالمية، افتقر إلى الروح".
في غياب التنوع، تنكمش المدينة وتتحول إلى كُتيّب تعليمات، لا إلى نسيج حيٍّ يمكن العيش فيه والتفاعل معه، فبرزت في الأوساط العلمية مفردة الاستنساخ الحضري.
الإجابة الدقيقة لمن يسأل عن ضياع الهوية هي ان الهويّة لا تضيع فجأة، بل تُهمل على مراحل. حين نَسخنا أنماط العمارة الخليجية الحديثة أو الغربية النفعية، لم نسأل إن كانت هذه الأشكال تعبّر عن بيئتنا أو تُلائم مناخنا أو تُرضي أعيننا التي تربّت على الفناء والقوس والظل.
لقد تم اختزال العمارة إلى "شكل حديث"، وصار المنزل الجيّد هو ما يشبه المجلات الأجنبية، لا ما يُشبه أصحاب الدار. وهنا يحضر قول بيتر آيزنمان (معماري وفنان امريكي): المشكلة الحقيقية في العمارة ليست الشكل، بل المحتوى". محتوى المكان الذي غاب مع غياب العلاقة بين المادة والبيئة المحيطة، وبين الإنسان والفضاء.
غالبًا ما يبدو التشابه العمراني ظاهرة تصميمية، لكنه في جوهره انعكاسٌ لهيمنة منطق اقتصادي على عملية التخطيط. الشركات المطوّرة تبحث عن الربح، وتُفضّل التصميم المتكرر لأنه أوفر وأسرع. والجهات المراقبة المسؤولة تفرض شروط ومحددات موحدة تقلل من حرية المصمم وتعيق المقترحات المبتكرة.
ان المجمعات السكنية المتكررة والمتجاورة هي ليست الا نتائج لنمطية عمرانية تكرّر نفسها دون وعي. وتنتشر المجمعات التجارية بنفس الشعارات، والمقاهي ذات الأثاث ذاته، والواجهات الزجاجية المتشابهة. المدن تُفرّغ من خصوصيتها وتراثها وتاريخها وموروثها الثقافي كما هو الحال في مدن معروفة مثل روما التي عانت من تفريغ لخصوصيتها وهويتها وتاريخها تحت ضغط الحداثة، او إسطنبول والتي برغم غناها الحضاري الممتد من الإمبراطورية البيزنطية إلى العثمانية، تعرضت إسطنبول في العقود الأخيرة لموجات عمرانية عشوائية. تمت إزالة العديد من المباني العثمانية والبيزنطية لصالح مجمعات تجارية وناطحات سحاب لا تنتمي للسياق الثقافي للمدينة، وحتى القاهرة التاريخية، خاصة الفاطمية والمملوكية، تعرضت لتآكل تدريجي بفعل التوسع العمراني غير المخطط، وتجاهل القيمة التراثية للمباني، وحتى بغداد القديمة، بأسواقها ومساجدها وبيوتها ذات الفناء الداخلي، شهدت تراجعًا كبيرًا في الحفاظ على هويتها بسبب الإهمال، النزاعات، والقرارات التخطيطية غير المنسجمة مع التاريخ. تم استبدال أبنية تراثية بأخرى إسمنتية بلا ملامح. المدينة التي كانت تُعرف بـ"دار السلام" تحولت إلى كتل صامتة من الخرسانة. تتحوّل إلى بيئات محايدة بصريًا، تفتقد إلى النكهة المحلية التي كانت تمنح كل مدينة شخصيتها.
إن طريق الخروج من هذا النمطية ليس مستحيلًا. بل يمكن استعادة تفرد المدينة وتميزها، متى ما قررنا أن التخطيط يجب أن يكون فعلاً ثقافيًا لا مجرد إجراء هندسي او اجراء بحسب خريطة (بنّاء) او كما يعرف بالمصطلح الشعبي (الخلفة) .
لابد من تمكين الجامعات والمراكز البحثية لتقديم حلول عمرانية مستندة إلى خصوصية المكان. على الإدارات المحلية أن تتبنى آليات مرنة تُحفّز التنوع المعماري. ويجب إعادة الاعتبار للمواد المحلية، والتقاليد البنائية التي تشكّل جزءًا من ذاكرة مجتمع تلك المدينة وموروثها الثقافي.
فرانك غيري قال: "العمارة يجب أن تعبّر عن زمانها ومكانها، لكنها تطمح إلى الخلود". وما الخلود إلا في الأصالة.
في النهاية، لا يتعلق الأمر بمبانٍ جميلة أو قبيحة، بل بشعور الإنسان في المكان. هل يشعر أنه في مدينة تعبّر عنه؟ أم في مسرح كبير بلا جمهور؟
ليست المدن حيادية. إنها كائنات تنبض بذاكرة أهلها. التشابه العمراني ليس قدَرًا لا يُرد، او واقعا ثابتاً لا يتغير، بل هو نتيجة قرارات يمكن إعادة النظر فيها.
وفي قول فرانك لويد رايت ما يُلخّص الرؤية التي نطمح إليها "المبنى الجيد لا يُشوّه الطبيعة، بل يجعلها أجمل مما كانت"
فلنحلم إذن بمدن تُضيف إلى الحياة جمالًا، لا تُكرّس فيها الملل والتشابه. مدنٌ تُشبه ناسها، لا تشبه بعضها.